قصه محمد وزوجته دلال

في إحدى صباحات ديسمبر الباردة، استيقظ محمد على رائحة قهوة عربية تفوح من المطبخ. كان صوت غلاية القهوة يتناغم مع خفَّة خطوات دلال وهي تتحرك داخل المطبخ بترتيب تام. فتح محمد عينيه ببطء، ومدَّ يده يبحث عن هاتفه، ثم تراجع فجأة وهو يتذكر كلمات دلال ليلة أمس حين قالت له بابتسامة ممزوجة بالتعب.
“يا محمد، لو تقدر يوم واحد تصحى من غير ما تمسك الجوال قبل ما تقول صباح الخير، راح أعتبرها هدية.”.
ابتسم محمد رغم أنه كان وحيداً في الغرفة، ثم وضع الهاتف على الطاولة من دون أن يفتحه، وتمدد للحظة يشعر بدفء اللحاف، قبل أن ينهض ويتوجه نحو المطبخ.
كانت دلال ترتب الفطور بعناية. خبز عربي محمص، جبنة بيضاء، بيض مقلي على شكل قلب – عادتها كلما كانت تحاول أن ترسم البسمة على وجهه – وكوب قهوة لكل منهما. حين لمحته في الباب قالت بابتسامة هادئة.
“صباح الخير.”
اقترب منها وقال.
“صباح الورد… من غير جوال، شوفي.”.
ورفع يديه ليبرهن لها أنه لم يلمسه.
ضحكت دلال وقالت.
“مو مصدقة والله، سجلوا التاريخ.”.
جلسا يتناولان الفطور معاً… لحظات بسيطة لكنها كانت تعني الكثير لكليهما.
محمد يعمل في شركة مقاولات ويقضي ساعات طويلة خارج المنزل، ودلال تعمل مدرسة للمرحلة الابتدائية، سريعة البديهة، مرهفة الإحساس، ومليئة بالحيوية. كان كلاهما يعيش الحياة بإيقاع مختلف، لكنه إيقاعٌ يكمل الآخر.
البدايات الجميلة
قبل أربع سنوات، كان محمد يحضر دورة في إدارة المشاريع، وكانت دلال ضمن فريق التنظيم. أول مرة رآها كانت تحمل جهاز العرض وتتجادل مع الفني حول الأسلاك وأماكن التوصيل. كانت ملامحها جادة، لكنها حين التفتت نحوه، وأخبرته بابتسامة أنها تحتاج أن يرفع كرسيًّا إضافيًا، شعر وكأن الدنيا أصبحت أهدأ، ولو للحظة.
لم يكن هناك الكثير من الحديث بينهما في البداية، فقط جمل قصيرة.
“ممكن تساعدني؟”.
“أكيد.”.
لكن مع تكرار اللقاءات بدأت الحكاية.
بعد انتهاء الدورة، جمعهما حديث طويل في استراحة القهوة، ثم لقاء آخر، وبعدها تطورت الأمور بشكل طبيعي وكأن القدر كان يسحب كلاً منهما إلى الآخر بخيط غير مرئي.
دلال كانت تقول دائماً.
“ما توقعت أحب شخص منطقي وعملي مثلك، يا محمد.”.
فيرد هو بابتسامة واثقة.
“وأنا ما توقعت أتزوج إنسانة عفوية تضحك على أتفه الأشياء.”.
كانت البداية مليئة بالحب، والرسائل الطويلة، والهدايا الصغيرة، والكثير من الوعود.
بداية المشكلة
لكن كما يحدث في أغلب العلاقات… بعد الزواج، تختلف التفاصيل.
لم يكن محمد رجلاً كثير الكلام، وكان يرى أن الحب يظهر بالأفعال.
دلال على العكس، تحتاج إلى كلام، مجاملات، اهتمام واضح، كلمات تطمئن قلبها.
مرت أول سنتين بشكل جميل، رغم بعض الاختلافات الصغيرة.
لكن المشكلة الحقيقية بدأت حين تم نقله في العمل إلى مشروع يتطلب منه البقاء خارج المنزل لساعات أطول.
كان يعود مرهقاً، صامتاً، يخلع حذاءه ويجلس على الأريكة بلا حركة.
ودلال تنتظره طوال اليوم لتشاركه ما حدث معها، لكنه كان يرد بإجابات قصيرة.
“تمام.”.
“بعدين نكمل كلام.”.
“مرهق شوي.”.
ليلة بعد ليلة، بدأت دلال تشعر بأنها تعيش وحدها.
حتى جاء ذلك اليوم…
يوم انفجرت فيه الكلمات.
كانت الساعة التاسعة مساءً، دلال رتبت العشاء بكل حب، طبخة يحبها محمد منذ أيام الخطوبة.
انتظرته طويلاً.
وعندما دخل أخيراً قال بصوت متعب.
“ما راح آكل، تعبت، بروح أنام.”.
هنا توقفت دلال أمامه والدموع تتجمع في عينيها.
“محمد… أنت حتى ما سألتني كيف كان يومي.”.
نظر إليها باستغراب.
“دلال، الله يهداك، تعبان، مو ناقص نقاش الحين.”.
ردت بصوت مرتجف.
“مو نقاش… أنا زوجتك. تبي تسمع كلمة مني؟ كلمة وحدة؟ كل يوم أنت ترجع البيت كأنك طيف، ما تحس فيني.”.
تنهد محمد.
“دلال، بالله عليك، اتركي هالموضوع اليوم.”.
لكنها لم تستطع التوقف.
“يعني إذا مو اليوم، متى؟ صرت ما تشوفني، ما تهتم، حتى لما أتكلم معك، أنت مو معي. كل يوم أعيش معك كأني ضيفة.”.
رفع محمد صوته لأول مرة منذ زمن.
“وأنتِ بعد! ما تحسين إني مضغوط؟ كل يوم شغل وساعات طويلة وحر ومشاريع، آخر شيء أرجع البيت ألقى شكاوي! مو كفاية؟.”.
جفته دمعة على خدها وقالت بحزن عميق.
“أنا مو شكوى… أنا ألم.”.
وسقط الصمت.
صمت كبير… أكبر من قدرتها على احتماله.
ذهبت إلى غرفتها وأغلقت الباب، بينما محمد جلس على الأريكة يتأمل سقف الغرفة، يشعر أنه فقد السيطرة على زمام الأمور.
الأيام التي تلت الخلاف
مرت ثلاثة أيام ثقيلة جداً…
محمد يخرج مبكراً ويعود متأخراً.
دلال تحاول التماسك أمام طلابها، لكنها حين تعود إلى البيت تشعر بأن الجدران تضيق.
البيت لم يعد دافئاً كما كان.
كل شيء بلا روح.
صوت التلفاز منخفض، وجبات تؤكل بصمت، نظرات متجنبة.
محمد كان يعرف في داخله أنه قسَا عليها…
لكن كبرياءه كان يمنعه من بدء الحديث.
ودلال كانت تبكي كل ليلة، لكنها في كل صباح تمسح دموعها وتقول لنفسها.
“يمكن هو ما عاد يحبني.”.
نقطة التحول
بعد أسبوع من التوتر، جاءت ليلة غيّرت كل شيء.
عاد محمد من العمل منهكاً كالعادة، لكنه وجد دلال جالسة في الصالة وبجانبها حقيبة سفر صغيرة.
تجمد مكانه.
“دلال… وين رايحة؟.”.
لم تنظر إليه مباشرة، بل قالت بصوت متماسك بشكل غريب.
“بروح عند أهلي كم يوم. مو علشان أهرب… علشان أرتب أفكاري.”.
اقترب منها بسرعة.
“لحظة، إحنا مو بخير؟”.
رفعت رأسها بعينين حمراوين وقالت.
“محمد، أنا أحبك. بس ما قدرت أعيش أسبوع أحس فيه أني مجرد قطعة أثاث. كل اللي أبيه منك… كلمة، اهتمام، جلسة. مو أشياء كثيرة.”.
جلس أمامها، وابتلع ريقه.
لأول مرة يشعر بالخوف من فقدانها.
“دلال، لا تروحين. خلينا نصلح اللي بينا.”.
هزت رأسها.
“أنا ما أبي أتركك. بس أنت… ما تبيني تسمعني. وأنا تعبت من الكلام اللي ما يوصل.”.
قال بصوت مكسور.
“طيب، اسمعيني أنا.”.
لأول مرة منذ زمن، وضع محمد كل كبريائه جانباً.
قال بصدق.
“أنا فعلاً مقصر… وأعرف هذا الشيء. لكن أقسم لك يا دلال، التعب اللي فيني مو كراهية، ولا برود. تعرفين أنتِ شقد أحبك. بس أحياناً الضغط يعمي الواحد. يخليني أركز على الشغل وأنسى أن ورائي قلب ينتظر كلمة.”.
سقطت دمعة على خدها.
“ليه ما قلت هذا الكلام من أول؟ ليه خليتني أحس أن وجودي عبء عليك؟.”.
رد بإحساس صادق.
“أعترف أني ما كنت أعرف أعبّر. شوفيني… أحبك بس ما أعرف أشرح، وهذا خطأ.”.
اقترب منها، ووضع يده على يدها.
“إذا تبين نصلحها… ما راح نخلي المشكلة تخرب بيتنا.”.
ارتجفت يدها، لكنها لم تسحبها.
“وأنت مستعد تتغير؟ مو بس كلام؟.”.
“أيوه. مستعد.”.
بعد لحظة طويلة من الصمت، أغلقت الحقيبة ببطء وقالت.
“ما راح أروح.”
تنفس محمد وكأنه عاد للحياة.
البداية الجديدة
ليست كل البدايات تبدأ من الصفر.
بعض البدايات تبدأ من مكان مكسور…
لكن يُعاد بناؤه معاً.
في اليوم التالي، استيقظ محمد مبكراً، حضر الفطور بنفسه، وأيقظ دلال بلطف شديد.
“قومي يا دلال… فطورك جاهز.”.
فتحت عينيها وقالت بدهشة.
“أنت؟ سويت فطور؟”.
“وإذا تبين الغداء أسويه بعد.”.
ضحكت لأول مرة منذ أيام.
“لا، مو للدرجة.”.
جلسا يفطران معاً، وكانت بدايتها مختلفة.
محمد توقف عن مسك الجوال أثناء وجوده معها.
صار يسألها عن يومها، ويجلس معها في المساء يستمع لأحاديثها الصغيرة التي كثيراً ما تجاهلها سابقاً.
ودلال بدأت تفهم أن محمد لا يعبر بالكلام كثيراً، لكنها تتعلم الآن أن تترجم أفعاله الصغيرة.
كوب شاي يحضره لها دون أن تطلب. بطانية يغطيها بها وهي تشاهد التلفاز. رسالة قصيرة في وقت العمل تقول: “اشتقت لك.”
اتفاقهما الجديد
جلسا ذات ليلة، وقررا وضع قواعد جديدة بينهما.
قالت دلال.
“نحتاج وقت يومياً نتكلم فيه، حتى لو عشر دقايق.”.
أجاب محمد.
“متفق. ونحتاج بعد نسوي شيء مشترك كل أسبوع.”.
فكرت وقالت.
“رحلة قصيرة؟ عشاء؟ او نلعب لعبة أسئلة بين الزوجين.”.
“اللي تبين.”.
ثم قال محمد.
“وأنا بعد أبي منك شيء.”.
“إيش هو؟”.
“إذا مرة كنت مرهق ولا قادر أتكلم، عطيني مساحة بس، مو زعل.”.
أومأت دلال بلطف.
“وعد.”.
كان هذا الاتفاق بداية نضج جديد في العلاقة.
اللحظات الجميلة تعود
مرت أسابيع، وعاشا أياماً أجمل مما مضى.
صار الحوار بينهما أسهل، وصارت الخلافات تنتهي قبل أن تبدأ.
ذات مساء، بعد يوم طويل، جلسا في الشرفة يشربان النعناع الساخن.
قالت دلال وهي تنظر للسماء.
“تعرف يا محمد؟ أنا كنت خايفة نخسر بعض.”.
رد وهو يمسك يدها.
“وأنا بعد… بس الحمد لله أننا عرفنا كيف نرجع.”.
ابتسمت وقالت.
“الحياة ما هي كاملة… بس إذا الطرفين يبون بعض بصدق، كل شيء يتصلح.”.
ضحك محمد.
“قولي هذا الكلام بعد أسبوع لو رجعت تعصبتي عليّ لأني ما غسلت الصحون.”.
دفعت كتفه مازحة.
“أحلف أني ما أعصب. يمكن شوي.”.
ضحكا معاً… ضحكة صادقة، خفيفة، دافئة، تشبه بداياتهما الأولى، لكنها تحمل شيئاً إضافياً…
نضجاً.
فهما.
عمقاً.
وإيماناً أن الحب ليس مجرد أيام جميلة، بل صبر ومواقف ومحاولات جديدة كل يوم.
خاتمة
محمد ودلال لم يعودا كما كانا في الأيام الأولى.
أصبحا أكثر قرباً، وأكثر وضوحاً، وأكثر قدرة على التعبير عن مشاعرهما.
وتعلم كل منهما أن الحب ليس مجرد كلمة، بل فعل، وحوار، واهتمام، وتقدير.
تعلم محمد أن الكلام الذي تحبه دلال ليس رفاهية، بل هو غذاء لقلبها.
وتعلمت دلال أن محمد يحب بطريقته، لكنه مستعد أن يتغير من أجلها.
وفي النهاية…
لم تكن مشكلتهم نهاية، بل كانت بداية جديدة أكثر جمالاً.
وأحياناً…
القلوب لا تظهر قوتها إلا بعد أن تُجرح قليلاً، ثم تتماسك من جديد


